سعيد المزواري
العرض العالمي الأول لـ”الست” (2025، 160 دقيقة)، للمصري مروان حامد، حصل في الدورة الـ22 (28 نوفمبر/ تشرين الثاني – 6 ديسمبر/ كانون الأول 2025) للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش (قسم العروض الاحتفالية). عملٌ حشد انتظارات كبيرة، بحكم مكانة أم كلثوم في الوجدانين، المصري والعربي، فأُثير جدل في الأوساط الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، انطلاقاً من الإعلان الترويجي، خصوصاً عن أحقية منى زكي بتأدية الدور الرئيسي، ما يذكّر بجدل تلا إصرار أوليفييه دهان على ماريون كوتيار لتأدية دور إديث بياف، في “لاموم” (2007)، عكس توصية الجهات المنتجة بمنح الدور لأودري توتو.
يمزج “الست”، عن سيرة المطربة الأسطورية في نصف قرن، بين توجهين، يطبعان أفلام السِّيَر الحياتية: أعمال ممتدة في الزمن، تتابع مسار شخصيات تاريخية، كلّه أو جُلّه، وهذا أقرب إلى “الست”؛ والتركيز على مرحلة معينة في المسار، تختزل عصارة تجربة الشخصية في مأزق مرتبط بحدث أو صراع.
لعلّ ما ينقذ “الست” المزج بين التوجهين، إذ يقتفي جُلّ مسار حياة أم كلثوم (1898 – 1975) بنوع من التكثيف والاختزال. لكن السيناريو (أحمد مراد) يتلافى التشتّت بالتوقف في مراحل دقيقة، بنوع من التأمل والامتداد في الزمن، كحال فترة العزلة التي عاشتها المطربة غداة ثورة يوليو 1952، التي تُعدّ على الأرجح أكثر مقاطع الفيلم ترسّخاً في لغة السينما والعواطف المركّبة.
، إذ تُذكّر -بتوغلها في جمالية الأبيض والأسود، وقتامة أجوائها- بأفلام العصر الذهبي لهوليوود، وشخصيات تنحدر إلى القاع بعد بلوغ المجد، على غرار نورما ديزمند في “سانسَت بوليفارد” (1950) لبيلي وايلدر، وجملتها الشهيرة التي يمكن تحويرها لتُعبّر عمّا يمور داخل كوكب الشرق في أثناء عزلتها: “أنا ما زلت كبيرة. الطرب الذي غدا صغيراً”.
ولولا بعض اختيارات المونتاج، المزعج بإفراطه في السرعة في بداية الفيلم (مشهد الوصول إلى محطة قطار القاهرة أبرز نموذج)، أو المرتبطة ببعض التفكك بسبب طول المدة الزمنية المطروقة سردياً، وطغيان الموسيقى التصويرية، لكُنّا بصدد الحديث عن نجاح كامل.
يُفتتح الفيلم بمشهد يمثل أوج مسار كوكب الشرق، حين تحلّ بمسرح الأولمبيا بقلب باريس، في إطار جولة كبيرة في أرجاء العالم العربي ودول غربية، لجمع أموال لدعم المجهود الحربي غداة حرب يونيو 1967. يُنظّم الحفل بالقاعة الفرنسية الشهيرة، في أجواء متوتّرة، يختلط فيها السياسي بالفني، فيحدث ما يبدو اقتحام أحدهم المسرح للهجوم على المطربة، قبل أن يعود خيط الحكي إلى جذور الحكاية بمركز السنبلاويين، في محافظة الدقهلية، شمال شرقي مصر.
لكن “الست” لا ينفك يعود إلى مشهد الأولمبيا، متخذاً منه مرجعاً وملجأً يتيحان للمشاهد التموقع، بين الفينة والأخرى، في سرد مبعثر زمنياً، لكنه متناغم وفق التراتب العاطفي للشخصية الرئيسية، وهذا اختيار موفق لكاتب السيناريو. ترصد البداية الخطوات الأولى لأم كلثوم في غناء الأمداح النبوية، برفقة والدها الشيخ المؤذن البلتاجي (سيد رجب) على الدف. الظروف الصعبة، التي عاشتها مع هذا الأخير ومع أخيها، في إحياء أعراس الأرياف لقاء أجر زهيد، متنكرةً بِزيّ صبي، لأن التقاليد لا تسمح بغناء البنات، ينضاف إليها الظهور الخاطف للأم؛ هذه الظروف تترجم ملمحاً أساسياً في الفيلم، إذ تظلّ المطربة محاطة برجال: أفراد عائلتها، سياسيون، أعضاء فرقتها، منافسوها في الغناء.
تتسلق اليافعة سلالم النجاح بسرعة، من دون أن يخلو طريقها من مشاكل، كحادثة تهديد أحد زبائن الكازينو لها، وإشهاره مسدساً في وجهها، وتحدّيها له الذي جلب عليها نقمة والدها وضرباته. مشهد يرفقه حامد بتسجيل صوتي من أحد استجوابات أم كلثوم وهي تؤكّد الواقعة، وفاءً لمقاربة تمزج التخييل بوثائق من الأرشيف: مقاطع صوتية، قصاصات صحافية، صُور، لإضفاء مصداقية على الحكي، عزّزتها ديكورات وتصميم فني متقن أفاد من الموازنة الكبيرة نسبياً (نحو 9 ملايين دولار أميركي).
ما إن يتحقق النجاح، حتى تطفو على السطح قصص حب تجمع أم كلثوم بالشاعر أحمد رامي، وشريف باشا صبري (خال الملك فاروق)، ثم خطبتها للملحن محمود الشريف، التي تجرّ عليها حادثة أخرى، ومسدس ثانٍ يُشهره في وجهها الموسيقار محمد القصبجي، المتيَّم بها، الذي لم يستسغ حديث الصحف عن عزم الشريف على منعها من الغناء بعد الزواج. اتخذ السيناريو الحادثة ذريعة لمشهد كوميدي بديع في قسم الشرطة، يعرب فيه المأمور عن إعجابه الشديد، وإعجاب زوجته، بالمطربة، ويترجم الشعبية الطافحة التي كانت وما زالت تحظى بها.
ولعلّ زواجها المتأخر من طبيبها يعكس معاناتها مع الأمراض، ما أثّر في شكلها. إذ تقول في مشهد مؤثّر إنها تشكّ أحياناً في قدرة الناس على التعرّف إليها، من فرط تبدّل وجهها وبدنها بفعل المرض. خيط سردي مهم يمسك بفكرة أثيرة، مفادها أنّ العباقرة غرماء أنفسهم، وأنّ دوامة الشك والاستسلام لجانبهم القاتم كفيلة وحدها بجرّهم إلى الأسفل.
وفقاً للمثل الفرنسي الشهير “لا اثنان من دون ثالث”، يشهر رجل ثالث مسدساً في وجه أم كلثوم: لصّ يقتحم قصرها في فترة عيشها وحيدة (“المواطن كين”، 1941، لأورسون ويلز، ليس بعيداً) غداة ثورة يوليو 1952، ويسرق أغراضاً ثمينة. التحقيق في السرقة يُعدّ من أفضل مشاهد “الست”، بفضل جوّ سوداوي يشوبه، ونبرة التلميح من الضباط في نيات المطربة إثر عدم إشادتها الصريحة بالثورة، مخافة أن ينعتها جمهورها بالنفاق، بعد غنائها للملك في عيده قبل أسابيع.
يعبر خيط نسوي رفيع طرح “الست”، بتمسّك أم كلثوم بالبقاء في القاهرة، عكس رغبة أبيها؛ أو خوضها انتخابات رئاسة نقابة الموسيقيين ضد محمد عبد الوهاب، ثمّ مشاركتها في المجهود الحربي، في نموذج للمرأة المصرية المنخرطة في هموم وطنها، وخصوصاً سعيها إلى الكمال الفني، بفرض شخصيتها وتمسّكها بالتفاصيل، وسط محيط رجولي. ولعلّ أداء منى زكي توفّق، إلى حد كبير، في الإمساك بتلابيب هذا الجانب من الشخصية، من دون سعي إلى تقليد أو محاكاة لحركات معينة، ما عدا الحركة الأيقونية من اليد الملفوفة بوشاح الرأس، التي توجهها الست إلى فرقتها إيذاناً ببداية العزف. حركةٌ ترسّخت في أذهان ملايين من عشاق هذه الأسطورة، الذين سيكتشفون وجهاً آخر من حياتها، عند إطلاق عروض الفيلم في 10 ديسمبر/ كانون الأول 2025.